أخبار وتقارير

الحديدة.. مشروع تقسيم استعماري قديم!

الحديدة.. مشروع تقسيم استعماري قديم!

علي الشراعي /

"إن الأتراك قد ذهبوا من الجزيرة العربية وتركوا كل عاهل عربي يلعب في الساحة وحيدا, ودور البريطانيين الآن صناعة الملوك بتشكيل دويلات متساوية حتى لا تكون هناك دولة واحدة راجحة أو متغلبة, وفضل البريطانيين عظيم إذا ما أبقوا على اللاعب مستمرا في لعبهِ" جيكوب

كانت القيادات العربية في الجزيرة العربية وخلال الحرب العالمية الأولى تعقد التحالفات المؤقتة التي ما تلبث أن تتحول إلى صراعات وحروب واقتتال بينهم, فالتحالفات غير ثابتة والعداوات والمخاصمات متقلبة تخمدها وتوتُرها الحمى البريطانية.

احتلال الجزر
مع بداية الحرب العالمية الأولى (1914- 1918م) ولأهمية الجزر اليمنية وبالذات جزيرة كمران فقد احتلتها قوات الإنزال البريطاني في يونيو 1915م لما لها من أهمية من الناحية الإستراتيجية والمشرفة على مداخل الساحل اليمني كذلك قامت باحتلال جزر زقر وجبل الطير ومجموعة جزر أرخبيل حنيش.
في 8 يونيو 1915م وصلت السفينة الحربية البريطانية (أمبرس أو رشيا) إلى جزيرة حنيش الكبرى حيث نزل فيها ضابط هندي و45 من لواء المشاة و109 من رجال المدفعية, وفي وقت متأخر من نفس اليوم نزل عدد مماثل من القوات البريطانية إلى جزيرة زقر حيث رفع العلم البريطاني فيها، وفي اليوم التاسع من يونيو أنزلت السفينة مجموعة مسلحة تحت قيادة الميجور (فيلوز) من لواء المشاة إلى جزيرة كمران، ومن ثم تقدمت السفينة نحو ميناء الصليف محاولة تحرير ستة بريطانيين وقعوا في اسر القوات التركية)، (العمليات البحرية البريطانية ضد اليمن إبان الحكم التركي 1914-1919م- جون بولدري).
ومع هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وخروجها من شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام نشرت بنود اتفاقية سايكس بيكو واشتد الصراع السعودي النجدي- الحجازي بين ابن سعود والشريف الحسين بن علي كذلك بين محمد بن علي الادريسي بالمخلاف السليماني وبين الإمام يحيى بصنعاء، فقد اشار (الكولونيل جيكوب) المعاون الأول للمقيم السياسي البريطاني لتلك الصراعات بقوله: (إن الأتراك قد ذهبوا من الجزيرة العربية وتركوا كل عاهل عربي يلعب في الساحة وحيدا, ودور البريطانيين الآن صناعة الملوك بتشكيل دويلات متساوية حتى لا تكون هناك دولة واحدة راجحة أو متغلبة, وفضل البريطانيين عظيم إذا ما أبقوا على اللاعب مستمرا في لعبهِ).
وما أن انتهت الحرب العالمية الأولى حتى بدأ الصراع بين الحلفاء من دول الوفاق من اجل اقتسام العالم والمكاسب الإقليمية الأفضل في حين كانت تركيا تنتظر مصيرها الذي كان ستقرره الدول الغالبة في مؤتمر الصلح الذي عقد في باريس 1919م 1920م، إلا أن تناقضات عميقة بين الحلفاء تجلت على طاولة المفاوضات فكل بلد من الحلفاء يريد ان يحصل من النصر على اكبر قدر من الامتيازات السياسية والاقتصادية والإستراتيجية.

سياسة استعمارية
لم يكن المستعمر البريطاني راض إطلاقا بتأسيس الدولة اليمنية المستقلة بزعامة الإمام يحيى ومنذ الأيام الأولى بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى قاموا بمحاولات لعرقلة توحيد اليمن فقد تذرعت بريطانيا باستسلام القوات العثمانية غير الكامل في اليمن واحتلت في ديسمبر 1918م الساحل اليمني بما في ذلك ميناء الحديدة التي هي اكبر ميناء في شمال اليمن آنذاك، وكان احتلال القوات البريطانية لميناء الحديدة قد حرم المناطق الداخلية في اليمن من المنافذ إلى البحر الأحمر وقطع صلاتها التجارية مع العالم الخارجي، (الاستعمار البريطاني وتقسيم اليمن- خودا بيردييف).
فضرب الانجليز للحديدة كانوا يرمون من ورائه وضع أقدامهم في اليمن لمواجهة حكومة صنعاء بالأمر الواقع حتى يستطيعوا أن يساوموا صنعاء على الحديدة لمعرفتهم أهميتها بالنسبة لحكومة صنعاء، وقد إدعا المحتل البريطاني أن الفرق العسكرية دخلت الحديدة للمحافظة على السلام والنظام وأن المدينة سوف تعود لحكومة صنعاء ثانية بعد استسلام كافة المحاميات العثمانية في اليمن، (تكوين اليمن الحديث - دكتور سيد مصطفي سالم).

العصا والجزرة
استمرت العلاقات اليمنية- البريطانية في تدهور نتيجة مواصلة القوات البريطانية احتلالها لميناء الحديدة وإمداد قوات الادريسي بالأسلحة والذخائر، وقد عبرت رسالة القائد العام المقيم السياسي في عدن (استيوارت) إلى الإمام يحيى بتاريخ 19 يناير 1919م عن مدى تردي العلاقات بين الطرفين فقد رفض أستيوارت مقابلة مبعوثي الإمام الذين وصلوا من الحديدة على التوالي الأول في 3 يناير والثاني في 11 يناير بدعوى اتصال أحد أعضاء الفريق الثاني بقنصلية أجنبية (أمريكا) وتسليمه رسالة من الأمام إلى القنصل يُبدي فيها رغبته في عرض مطالبه على مؤتمر السلام الذي سيعقد في باريس عن طريق تلك الدولة.
غير ان المقيم السياسي في عدن لجأ إلى سياسة العصا والجزرة في رسالته إلى الإمام فأبدى استعداده لتلقي أية رسالة من الإمام تُبعث له عن طريق الحديدة, وفي نفس الوقت يقدم شكره للإمام لعدم معارضته في استسلام الجنود الأتراك الأسرى في الحديدة, ويفيد بأنه ما تم لا يتعدى كونه تنفيذا لواحد من شروط الهدنة المفروضة على الدولة التركية, ولا بد من تنفيذ باقي الشروط الملزمة باستسلام كافة الحاميات التركية المتبقية في اليمن، وبعدما يتحقق ذلك فإنه يمكن النظر في جميع مطالب الإمام المالية والإقليمية كما وعدت الحكومة البريطانية.

وثائق بريطانية
ويتضح من الوثائق البريطانية أن السياسة البريطانية كانت تحاول خداع حكومة صنعاء بشأن الحديدة, فقد نشط الضباط البريطانيون خلال سنة 1920م للالتفاف على مطالب حكومة صنعاء وخاصة في الحديدة, فأعزوا إلى بعض أعيان الحديدة رفع الاسترحامات والاستعطافات والالتماسات بواسطة الحاكم السياسي البريطاني (الميجر ميك) في الحديدة ثم بواسطة الحاكم السياسي البريطاني استيوارت في عدن إلى لجنة الأمم (عصبة الأمم) التي ستلتئم في باريس في مؤتمر الصلح يُبرون فيها مطالبهم تمشيا مع القاعدة المنشأة بين الدول في حق تقرير المصير، وفي الاسترحامات المملاه من الضباط البريطانيين يُبدي الأعيان رغبتهم في الإبقاء على القوات البريطانية وعدم تقليص أعدادها بدعوى حماية الحديدة من البر والبحر ولاستمرار التجارة ولحماية أهل الحديدة من هجمات البدو أو من قبل قوات الإمام يحيى أو الإدريسي حتى لا تنهب المدينة من قبل هؤلاء جميعا وهم يرغبون في إعادة دولتهم العثمانية لممارسة سلطاتها عليهم في تطبيق الشريعة وحفظ أمنهم كخيار أول, فإن تعذر فيقبلون بأحد أفراد الأسرة الخديوية المالكة في مصر أو اختيار أي ملك عربي طبقا لشروط توافق عليها وتقبلها القوى العظمي ولكن بواسطة بريطانيا العظمى والتي ستتصرف كذلك كدولة انتداب ولكن لا نريد أية دولة أجنبية غيرها، ولحين إبلاغنا نتيجة هذا البيان فإننا نصلي من أجل بقاء القوات البريطانية معنا من أجل حمايتنا من البر والبحر ولاستمرار التجارة كما هي الآن وتوسيعها أكبر قدر ممكن.
 وقد وقع على الاستعطافين بتاريخ 15 ديسمبر 1920م نفر من التجار وكلاء الشركات الأجنبية التجارية في الحدية وعدد من الموظفين الإداريين وبعض القضاة الذين كانوا يوالون الإدريسي، (كتيبة الحكمة- عبدالكريم مطهر).

دولة ساحلية
فقد أراد المستعمر البريطاني من تلك الرسائل التي رفع به أعيان الحديدة ضمان مستقبل مدينة الحديدة في حالة انسحاب القوات البريطانية منها وخلال زيارة الحديدة من قبل (باريت) المعاون الأول للمقيم السياسي في عدن أوضح ان الأعيان والتجار في الحديدة يرغبون في إنشاء مملكة تضم متصرفية الحديدة بحدودها العثمانية التي تمتد من أبي عريش (أي المنطقة التي يسيطر عليها الإدريسي في الشمال إلى زبيد في الجنوب وتشمل أيضا جبل ريمة وملحقاته وجبل برع بمدنه ونواحيه وعزله).
وخلال اجتماع باريت مع أعيان الحديدة منتصف سنة 1920م ناقش باريت مع الأعيان تصميم بريطانيا على تحصيل رسوم جمركية على البضائع بواقع 2% إلى 3% لمواجهة مصروفات التكاليف البريطانية لقواتها المتواجدة في الحديدة لحماية أهلها ورغم ذلك فأن بريطانيا تؤكد رغبة الاعيان في ايجاد حكومة تدير شؤونهم فالأعيان يتخوفون من الحروب الواقعة بين حكومة صنعاء والادريسي من جهة والتحالف السعودي- الإدريسي من ناحية أخرى، وأوضح باريت ان حكومته في انتظار لقرار لجنة الأمم التي ستنعقد في باريس.
وأمام ذلك فقد أعاد الأعيان تذكير بريطانيا بوعودها حين احتل استرنج الحديدة وأصدر منشوره إلى الأهالي في 12 ربيع الأول سنة 1337 هجرية الموافق 18 ديسمبر 1918م بأن بريطانيا ما أقدمت على احتلال الحديدة إلا لحماية أهلها وفرض النظام والقانون وليس من مقصدها توسيع سيطرتها على مناطق أخرى ولا البقاء إلى حين صدور قرارات لجنة الأمم.
 ولتدعيم بريطانيا حجتها في عدم إقدامها على احتلال الحديدة فقد قبلت من شيخ ريمة محمد أمين رسالته التي يطلب حمايته وقبيلته التي تزيد تعدادها عن مائة ألف من حكومة الإمام وقواته ولعل القادة البريطانيين في عدن والحديدة يشيرون إلى رغبة التجار في الحديدة في إنشاء مملكة تكون ريمة أحد ملحقاتها.

ورقة مساومة
وفي محادثات السلام المزعومة في باريس لم يتخذ قرار بخصوص وضع مدينة الحديدة في المستقبل, ومع فشل السياسة الاستعمارية البريطانية آنذاك في جعل تهامة دولة ساحلية مستقلة عن الوطن الأم- اليمن- كحلقة امتداد لتقسيمها لجنوب اليمن، أصبحت الحديدة في نفس الوقت ورقة مساومة في المفاوضات الأنجلو- يمنية وعند فشل تلك المفاوضات بعرض تسليم بريطانيا للحديدة لصنعاء مقابل جلاء قوات حكومة صنعاء من أجزاء من محمية عدن سلم المحتل البريطاني مدينة الحديدة للإدريسي في 29 يناير 1921م، لتبدأ قوات صنعاء بعمليات عسكرية لتحرير الحديدة والساحل الغربي لتتمكن عام 1925م من استعادة كامل الشريط الساحلي الغربي بما فيه الحديدة والزحف نحو المخلاف السليماني لإعادته للوطن.
 فما أشبه سياسة عدوان 2015م بما حدث قبل 100 سنة من قبل سياسة المحتل البريطاني للساحل الغربي وبالذات ميناء الحديدة، فسياسة المحتل البريطاني من خلال الوثائق البريطانية آنذاك كان هدفه واضحاً بإقامة دولة ساحلية في تهامة تضمن لهم تحقيق أهدافهم وسيطرتهم على مضيق باب المندب وموانئ الساحل الغربي، ومازالت تلك السياسة الاستعمارية القديمة تعود اليوم عبر أدواتهم الذين انخرطوا في المشروع الأمريكي- الغربي بالعدوان على اليمن وتقسيمه!.

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا