الأخبار

من كتاب : "تقسيم اليمن بصمات بريطانية" خنق اليمن اقتصاديا وعزلة عن البحر - 4

26سبتمبرنت / خالد الأشموري -
تأتي هذه الكتابات والدراسات البحثية من كتاب"تقسيم اليمن بصمات بريطانية"للإعلامي والباحث عبدالله بن عامر_- تواصلاً لما سبق الإشارة الية في الحلقات الثلاث السابقة والتي كانت عبارة عن خطوط عريضة لمحتويات الكتاب والمتضمنة عدة عناوين عن (التقسيم البريطاني ومطامعه للسيطرة على اليمن) " أستحقت جميعها القراءة والاطلاع .. ومايلي نقف تباعاً لبقية محتويات الكتاب للإطلاع على حقيقة تلك المخططات البريطانية التآمرية على اليمن منذ ماقبل القرن العشرين .

من كتاب : "تقسيم اليمن بصمات بريطانية" خنق اليمن اقتصاديا وعزلة عن البحر - 4

الخنق والعزل :
يقول الباحث والمؤلف عبدالله بن عامر : بعد الحرب العالمية الأولى سعت بريطانيا لتحقيق عدة أهداف منها الحفاظ على سيطرتها على الجزيرة العربية دون ان تشاركها في تلك السيطرة او النفوذ أي قوة أخرى واتجهت كذلك إلى تعويض خسائر اقتصادها جراء الحرب من خلال التركيز على المناطق الاستراتيجية وذات الأهمية الاقتصادية وكان من بين تلك المناطق الجزيره العربية ولهذا ركزت في استراتيجيتها على أن تكون الجزيرة بما في ذلك اليمن المستقل وقتها منطقة انتداب بريطاني ومنع أية قوة اجنبية من الحصول على أية امتيازات في هذه المنطقة مع التركيز على
إخضاع الجزر اليمنية للإدارة البريطانية ولتحقيق ذلك الهدف سارعت إلى ارسال بعثة إلى اليمن 1919م لإجبار الإمام على ان يكون خاضعاً هو الآخر للحماية البريطانية حاله كبقية المشايخ والحكام في الجزيرة من ابن سعود الى الشريف حسين إلى امارات الخليج وامارات الجنوب ، وينقل عزيز بير داييف عن وثائق الهند البريطانية أنه وقبل تحرك البعثة جرت نقاشات عدة بين القادة البريطانيين منهم اللنبي في مصر والجنرال ستيوارت المقيم في عدن منها :
اولاً : إجبار الإمام على الإقرار والاعتراف بالحدود حسب الاتفاقية الانجلو - عثمانية ورسم الحدود بالقوة بين أراضي الإمام يحيى والادريسي الامر الذي سيؤدي الى عزل المناطق الداخلية في اليمن نهائياً وبصورة رسمية عن منافذ البحر ويحول دون نشوء الدولة اليمنية المركزية.. وكان هناك اعتقاد بأن الإمام يحيى يمكن ترويضه بسهوله .. وكتب المقيم البريطاني في عدن : بالإمكان حمل الادريسي والإمام يحيى على تنفيذ كل رغباتنا اذا سمعا رنين نقودنا .
ثانياً : مسودة الاتفاقية التي حاول البريطانيون فرضها على الإمام تتضمن ان تعترف بريطانيا بالإمام يحيى حاكماً على المناطق الجبلية وهو قسم معزول عن المنافذ البحرية مع تقديم بعض التسهيلات التجارية للإمام يحيى من خلال ميناء الحديدة باشراف بريطاني وعندما يسمح الموقف الحربي بذلك إضافة إلى السيطرة على التجارة الخارجية لليمن تعني السيطرة على مجمل اقتصاد البلاد وكانت سياسة حصار اليمن بحرياً تعود إلى سياسة اغلاق الموانئ اثناء الحرب العالمية الاولى عدا موانئ الادريسي .
ثالثاً : ومن ضمن الشروط منع الإمام من إقامة أية علاقات مع القوى الأجنبية عدا بريطانيا ومنعه من استيراد السلاح وحصول بريطانيا على امتيازات تجارية وعدم استخدام الأجانب إلا بإذن من الحكومة البريطانية وكان هذا الشطر يتعلق بوجود الاتراك في اليمن وشرط منع استيراد السلاح الهدف منه اخضاع اليمن والهيمنة عليه بشكل كامل .
وكل ذلك مقابل منح الإمام معونة شهرية مع مد خط تليغراف ، وكان هناك تقارير سرية بريطانية تتحدث عن إمكانيات اليمن الاقتصادية منها ما ورد في احد التقارير : بودنا لو تطورت المؤسسات الإنتاجية في اليمن وهناك ثقة بأن إمكانيات البلد كبيرة ولا نحبذ أن يمتلك الأجانب هذه الثروة التي من شأنها ان تساعد على ازدهار امبراطوريتنا إلا ان بعثة جاكوب لم تتمكن من الوصول إلى صنعاء بسبب ماحدث لها في باجل من قبل قبيلة القحري وفي تلك الفترة قرر الامام الضغط على البريطانيين في المحميات حتى ينسحبوا من الحديدة فتمكنت القوات اليمنية من تحرير الضالع ، وظلت السياسة البريطانية تقوم على ضرورة اخضاع اليمن من خلال عزله عن الدول الأخرى والتحكم به اقتصادياً ومنعه من الحصول على أي منفذ على البحر وشل الحركة الاقتصادية والتجارية في البلاد فعملوا على عزل القسم الجبل ومن شواهد ذلك تسليم الحديدة للادريسي 1921م مكافأة له ويعود أسباب الخروج البريطاني من الحديدة وتسليمها للادريسي :
1- الخلاف بين الدول الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى على اقتسام التركة العثمانية فقد أثار الفرنسيون قضية الشيخ سعيد وحاول الايطاليون التقارب مع الادارسة وكان الاستمرار في احتلال الحديدة من شأنه ان يدفع تلك الدول إلى المطالبة بالتكافؤ التام في اقتسام التركة العثمانية.

2- إضافة إلى ثورة ثوار عمان في خريف 1920م ضد البريطانيين الذين خافوا من امتدادها الى شمال اليمن .
3- اعتماد استراتيجية بريطانية تقوم على القوات الجوية .
4- أسباب أخرى بسبب توقف النشاط التجاري للمدينة حيث بدأت المجاعة تنتشر وهو ما قد يتسبب لبريطانيا بالحرج .
أما سبب تسليم المدينة للإدريسي وليس للإمام يحيى أن الإمام يحيى رفض كل العروض البريطانية وتمسك بأحقيته في كل اليمن ثم إن تسليم المدينة للادريسي يعني ضرب عصفورين بحجر فمن جهة إبقاء السيطرة البريطانية على الساحل الغربي من خلال الادريسي وكذلك عزل اليمن الداخلي وحرمانه من أي منفذ على البحر ، ووقتها اتجهت بريطانيا نحو تعزيز سياستها المتمثلة في عزل اليمن ومحاصرته لدرجة أن جميع الدوائر الاستخباراتية البريطانية اتفقت في آرائها على ضرورة الاستمرار في عزل الإمام يحيى عن العالم الخارجي وتم تقديم عدة مقترحات لتحقيق ذلك من خلال ماعرف بالمشكلة اليمنية :
1- تيار يؤيد استخدام الحديدة كأداة ضغط على الامام حتى يتنازل لبريطانيا ويعترف بالحدود وفق الاتفاقية العثمانية البريطانية مع إمكانية تعديلها .
إبقاء اليمن معزولاً وعدم السماح له بالحصول على أي منفذ بحري وتوجيه التجارة اليمنية إلى ميناء عدن ووقتها كان اليمن مهدداً بالإختناق في وقت رأى البريطانيون أن الأهم بالنسبة لهم إبعاد الإمام عن عدن فعندما يتنازل عنها يمكن التشاور حول تخفيف الضغوط البريطانية العسكرية والاقتصادية .
وفي مؤتمر الشرق الأوسط في القاهرة مارس 1921م حضرت المشكلة اليمنية فتقدم لورانس بورقة تضمنت مقترحات الهدف منها إزالة أي فرص للدسائس الإيطالية والفرنسية ومن ضمن تلك المقترحات تقديم تسهيلات جمركية للإمام في ميناء الحديدة والإبقاء على سيطرته على المخا الذي كان معطلاً او لا يمكن ممارسة نشاط تجاري واسع من خلاله وكل ذلك مقابل تقديم راتب شهري وتضمنت تلك المقترحات تحويل التجارة إلى عدن وقد أيد تشرتشل أن تتنازل بريطانيا عن جزء من اراضي المحميات للامام كون بريطانيا وقتها كانت تواجه صعوبات اقتصادية ولم يكن بمقدورها شن حرب عسكرية وعقد اجتماع وقتها على هامش المؤتمر توصل إلى إمكانية التنازل عن اراضي للإمام في المحميات مع استحالة ان يكون للإمام منفذ بحري وكان من ضمن التوصيات تحويل التجارة إلى عدن ليصبح المنفذ الوحيد وتجميد أي نشاط لميناء الحديدة ، وتم استدعاء الجنرال سكوت المقيم بعدن الذي اعترض على تعديل الحدود لأنها تمر من السلاسل الجبلية التي تشكل عائقاً امام أي توغل في المحميات .

اليمن يستعيد الحديدة بالقوه :
مابين 1921م - 1924م كان هناك مفاوضات بين مندوب الإمام عبدالله العرشي مع رايلي المقيم في عدن وقد سعى العرشي إلى انتزاع اعتراف بريطاني بحقوق الإمام في جنوب الجزيرة العربية بشكل كامل وساوم البريطانيون على الحديدة مقابل ان يعترف الإمام بوجودهم في عدن وبوضع المحميات وان يقتصر اليمن على المناطق الجبلية فقط وكانت بريطانيا تواجه مشكلة خطيرة تتمثل في توغل قوات الإمام نحو المناطق الجنوبية لدرجة أن بعض القادة اقترحوا التنازل عن الحديدة حتى يتوقف الامام عن الزحف نحو عدن في وقت كان البريطانيون يتابعون فشل الادريسي في إدارة الحديدة وتذمر أهلها ورغبتهم في الانظمام إلى الإمام وكان المقيم في عدن قد شكك في نجاح خيار توجيه التجارة اليمنية نحو عدن فقط نتيجة المسافة وأشار كذلك إلى محاولات فرنسا وإيطاليا التواصل بالإمام وكل ذلك يدعم رأية في ضرورة الإسراع بالاتفاق مع الإمام والتنازل عن الحديدة فتم التواصل بالإدريسي الذي كان يعاني من المرض فأضطرت بريطانيا إلى تأجيل قضية الحديدة رغم مصادقة الحكومة البريطانية على تسليمها للإمام مقابل اعترافه بحدود الاتفاقية الانجلو -عثمانيه إلا أن الإمام يحيى رفض الشروط البريطانية في عام 1923م واستعد عسكرياً لتحرير الحديدة بل وتوغلت القوات اليمنية اكثر في المحميات جنوباً وحينها نجح الإمام في الحصول على السلاح من إيطاليا ، ولم يأت 27مارس 1925م الا وكانت قواته قد دخلت الحديدة وكذلك ميدي وقد أدت تلك الانتصارات إلى تشجيع القوات اليمنية على مواجهة البريطانيين جنوباً وقرر الإمام استئناف النشاط الاقتصادى من ميناء الحديدة فقرر خفض الضرائب الجمركية ويقول عزيز خودا بيردييف : وهكذا استولى اليمانيون الشماليون على الحديدة دون معونة الانجليز فخسرت بريطانيا من يدها ورقة رابحة وبهذا فشلت الجهود البريطانية وقتها .. وقال ج أنكارين الذي كان شاهداً على الحرب اليمنية البريطانية :كل حيل المبعوثين الإنجليز وكل ذهبهم وتهديداتهم قد أصطدمت دائماً بدرع لا يخترق من الوطنية اليمنية الناضجة وأصبح تركيع هذا الشعب فوق طاقة الإنجليز فغالباً مايجد الإنجليز في الشرق خونة لكنهم لايجدون اصدقاء وقد تمكن اليمن من كسر الحصار البريطاني وافشال المخططات من خلال :

1- الخشية اليمنية من التبعية الاقتصادية دفع اليمنيين إلى الاعتماد على الذات وكان اليمن وقتها مكتفياً غذائياً من خلال الزراعة وسخر اليمن كافة إمكانياته وماجمعه الإمام من مال لخدمة الأعمال الحربية .
2- اللجوء إلى طرق مختلفة للحصول على المواد المطلوبة من الخارج كالتهريب تأسيس علاقات مع دول أخرى كإيطاليا التي حصلت على تسهيلات تجارية وتمكنت من تنفيذ خطوات اضرت بمكانة ميناء عدن لاسيما بعد تحرير الحديدة فقط أسست لخطوط تجارية بين الحديدة وميناء مصوع واحتكرت بيع البن اليمني وفي مرحلة لاحقة كان الإمام يحيى قد اتجه إلى الحصول على أسلحة حديثة من الولايات المتحدة الأمريكية إلا أن بريطانيا حذرتها من تزويد الإمام بأية معدات عسكرية كان المبدأ بالنسبة للإمام يحيى يقوم تقديس مبدأ الإستقلال ورفض التبعية للخارج ولهذا قال لبعثة أمريكية عرضت المساعدة افضل لي اكل العشب على رؤية الأجانب في بلدي يحصلون على امتيازات لاستثمار خيراتها وقال كذلك انه يفضل الاستقلال مع البؤس على التبعية مع الرفاهية فرفض ذلك .

إخضاع اليمن للانتداب :
أدت الهزيمة العثمانية في الحرب العالمية الأولى الى أن أصبحت بريطانيا هي القوة الوحيدة المسيطرة على شبة الجزيرة العربية ولم يكن هناك سوى اليمن الشمالي خارج سيطرتها الفعلية ولهذا عملت على محاصرته وإخضاعه بعد أن حاولت أن تبقى الجزيرة العربية خارج تفاهمات ما بعد الحرب بل حاولت أن تبعد الجزيرة عن اتفاقية سايكس ـ بيكو باعتبار المنطقة بأكملها تابعة لها, وبعد الحرب العالمية الأولى تم التوجه فعلياً لإخضاع المناطق الجبلية الخاضعة لحكم الإمام يحيى حتى يتم وضع الجزيرة العربية كلها تحت الانتداب البريطاني ففي 16مايو 1919م يقول اللورد ميلنر وزير المستعمرات البريطاني كانت الجزيرة العربية المستقلة مبدأ أساسياً في سياساتنا الشرقية ولكن ما نعنيه بذلك هو أن الجزيرة العربية رغم أنها ستكون مستقلة بذاتها فإنها ستبقى خارج الدسائس السياسية الأوربية وداخل مجال النفوذ البريطاني وهو ما يعني ان حكامها المستقلين لن تكون لديهم معاهدات أجنبية مع أحد سوانا وهكذا يُمنع الإمام يحيى من التواصل مع أية قوة أجنبية لاسيما وهناك اهتمام إيطالي باليمن وقد تواصل الإمام بالايطاليين من أجل الحصول على السلاح لمواجهة بريطانيا وكان الواقع الميداني يؤكد فشل الحملات العسكرية البرية وتعرضت القوات البريطانية والمرتزقة من التشكيلات العسكرية التابعة لمحمية لحج تحديداً لهزيمة ساحقة مع إسقاط ثلاث طائرات بريطانية ليفقد ذلك السلاح هيبته في اليمن .

منع اليمن من العلاقات الخارجية :
اليمن حاضر في المخططات الأجنبية نظراً لأهميته من حيث موقعه وبإعتباره أيضاً سوق للمنتجات ولهذا لا غرابة أن تسعى بريطانيا إلى الاستئثار بهذه المنطقة الحيوية ومنع أي قوة أجنبية أخرى من الوصول إليها فخلال العقد الثاني من القرين العشرين حاول كل من الفرنسيين والايطاليين التواصل بالإمام يحيى وكذلك الأمريكيون إلا أن دوراً بريطانيا محدداً ساهم في إفشال كل تلك المحاولات أو على الأقل منع اليمن من استغلال أية علاقات تربطه مع القوى الأخرى لا سيما السلاح وكذلك الجانب الاقتصادي وأية اتفاقات بشأن استخراج واستغلال الثروة، وتشير الوثائق الأمريكية إلى أن هناك إمتعاض بريطاني من أي إتفاقية مع الإمام وأن ذلك ظهر من خلال منع الإمام من الدخول إلى محميتهم عدن وكذلك من خلال دعم أبن سعود وخادمه الإدريسي، وتؤكد الوثائق كذلك أن البريطانيين عملوا على عزل الإمام يحيى وإبعاده عن عدن وقطع اتصاله بالبحر وبشأن طلبات الإمام العسكرية لم يتجاوب معها الجانب الأمريكي تقديراً للمصالح البريطانية إضافة إلى تراجع الولايات المتحدة عن مشاريع منها تطوير ميناء الحديدة.
بعد وصول الفاشيين في إيطاليا إلى السلطة 1922م تم التركيز على اليمن الذي حاول أيضاً كسر العزلة أو الحصار البريطاني من خلال عقد علاقات مع قوى أخرى غير أن البريطانيين سارعوا إلى محاولات إفشال تلك العلاقات وصولاً إلى الحصول على ضمانات من إيطاليا أن لا تسهم العلاقة مع الإمام يحيى في تطوير اليمن لا سيما فيما يتعلق بالحصول على الأسلحة ولهذا كانت إيطاليا تزود الإمام بأسلحة قديمة ورفضت تزويده بمضاد الطيران لمواجهة الغارات البريطانية ، وفي تلك الفترة شن أتباع بريطانيا في المنطقة حملة على الإمام يحيى لعلاقته بإيطاليا واتهامه بإدخال الاستعمار على الجزيرة العربية.
في العام 1928م كان اليمن أول بلد عربي يوقع أتفاقية مع الاتحاد السوفيتي وقد أسهمت تلك الاتفاقية في تعزيز التبادل التجاري بين البلدين إلا أن الصحافة البريطانية سارعت إلى شن هجوم على الإمام يحيى وعلى الاتفاقية التي توجت بمعاهدة صداقة وعبرت بريطانيا عن انزعاجها فكثفت من حملتها الجوية على اليمن في يونيو 1928م وعلى ذكر الأسلحة فقد حصل الإمام على أسلحة من إيطاليا إلا أنها لم تكن فعالة فحاول الحصول على أسلحة من دول أخرى لدرجة أن البريطانيين

أطلقوا عليه وصف " مجنون ذخيرة" لكثرة طلباته من الوفود الأجنبية الزائرة له بيع السلاح لليمن ونتيجة تقاعس الكثير من الدول عن تزويد اليمن بالأسلحة أتجه الإمام إلى صناعتها محلياً مستفيداً من الإمكانيات البدائية التي تركها الأتراك والتي لم تكن تفي بالغرض فاستعان بخبراء من دول أوربية منهم النمساوي جورج غير يشيش الذي أدار مصنع إعادة تعبئة خراطيش البنادق الفارغة وفي 1925م أفتتح مصنع آخر للذخيرة بإشراف الإيطالي رومولو كيبر يسي وأستطاع اليمن بعد ذلك من الحصول على معدات حديثة للمصنع ليبدأ الإنتاج في 1928م ولعل خشية الإمام من أطماع القوى الأجنبية هو ما دفعه اتخاذ سياسة انعزالية مكنته بحسب مؤرخين من صيانة استقلال بلاده من جهة وأعاقت من جهة أخرى التطور الاقتصادي والسياسي والاجتماعي لليمن.. ولهذا تحدث صاحب كتاب اليمن من الباب الخلفي بالقول: اليمن حتى اليوم ما زالت أصعب بلاد العالم على التسلل والاختراق وتشير الوثائق الأمريكية أن الإمام بقي حذراً من مشاريع الدول الخارجية المعروضة عليه وكان مميزات اليمن في تلك الفترة مساندته للأقطار العربية ومعارضته للنفوذ الخارجي والحرص على مقاومة المؤثرات الأجنبية التي تتعارض مع الثقافة العربية الإسلامية وكان الإمام حريصاً بالمستوى نفسه على أن لا يغمض عينيه عن البحر الأحمر.

قصف واحتلال:
محاولة الإمام يحيى توحيد اليمن جعله في صراع دائم مع بريطانيا وأدواتها في المنطقة لا سيما الإدريسي وابن سعود وخلال الحرب العالمية الأولى فرض الإنجليز حصاراً على الموانئ اليمنية الأمر الذي أثر على الصيادين اليمنيين إضافة إلى تداعيات اقتصادية على مختلف سكان اليمن وحاولت بريطانيا وقتها استمالة الإمام يحيى من خلال إيقاف قصف أي ميناء يعتمد عليه الإمام يحيى حتى يتم التفاهم معه ودفعه كالإدريسي إلى محاربة الأتراك إلا أن البحرية البريطانية عاودت قصف الحديدة والمخا بحجة منع إمدادات الجيش العثماني وفي ذات الفترة شن البريطانيون هجوماً على منطقة الشيخ سعيد وخلال الحرب جرت محاولات بريطانية لاحتلال مدينة الحديدة بعد أن شنت الحربية البريطانية عمليات هجومية ضد الموانئ لاسيما الصليف ثم باشرت قصف الحديدة تحت مبرر الإفراج عن الأسرى من الرعايا البريطانيين الذين وقعوا في أسر العثمانيين وتحت هذه الذريعة صدرت الأوامر باحتلال الحديدة لتحرير الأسرى فوصلت عدة سفن حربية بريطانية فجراً إلى الحديدة وأنزلت 300 جندي إلى الشاطئ وعند الساعة السابعة فتحت السفن نيرانها وقصفت مباني شمال الحديدة أعتقدت أنها منشآت عسكرية وقصفت كذلك مبنى الجمارك ، وقاوم اليمنيون إلى جانب الأتراك قوات البريطانيين وتصدوا للجنود الذين نزلوا إلى الشاطئ وأرغموهم على العودة بعد إصابة العديد منهم، وقد جاء التقييم البريطاني أن الحديدة تحت قبضة قوية وأن السيطرة عليها وتحرير الأسرى يتطلب الدخول في حرب شوارع في تية من الأزقة والحواري الضيقة، وكان القائد البريطاني يمتلك صلاحيات اتخاذ أي قرار إلا أنه رأى الانسحاب خلال اليوم الأول وعاد في اليوم التالي ليقصف المدينة من على ظهر السفن وأرسل إنذاراً إلى حاكمها وقال القائد البريطاني لقد ثبت الآن أن المدينة مكان حصين وسوف تزورها السفن بصورة متكررة حتى تتم الموافقة على شروطنا والسماح لرعايانا بالرحيل وبحسب مصادر تاريخية عدة فإن القصف البريطاني كان عنيفاً وفر الكثير من سكان المدينة بإتجاه المراوعة ، وكتب في الصحافة الأجنبية أن 500 من سكان المدينة ماتوا خلال فرارهم شرقاً قبل أن يصلوا إلى مياه الآبار بعد 16 كيلو متراً ومنهم من مات بعد أن وصل إلى الآبار فشرب كميات كبيرة من المياه ومات، وبعد مناقشات حول كيفية إخضاع الحديدة كان هناك رأي أن التهديد بمزيد من القصف سيدفع تجار الحديدة على الضغط على السلطات للإفراج عن الأسرى وبعد ذلك الفشل لجأ البريطانيون إلى الأدريسي من خلال دفعه إلى مهاجمة المدينة وجرت معارك عنيفة في اللحية بالتزامن مع الهجوم البريطاني على رأس عيسى وفي ديسمبر 1918م تقدمت السفن البريطاني لاحتلال الحديدة عقب هزيمة العثمانيين في الحرب وكانت الخطة البريطانية على النحو الأتي:
اختيار منطقة شمال المدينة على بعد الفين ياردة شمالي المدينة وكانت عملية الإنزال عند الغروب وساد الظلام وتأجل الهجوم على المدينة ، وفي اليوم التالي غطت سفينة حربية بوابل من قذائف المدفعية عملية الإنزال وإقامة ثلاث محطات إشارة في المدينة ومع القصف المدفعي انسحب الأتراك وسيطر البريطانيون على المدينة.

المواجهة:
تعززت قوات الإمام منذ 1923م وبدأ يتوجه نحو التوسع أكثر فدفع بقوات نحو المحميات لإجبار الإنجليز على رفع الحصار ودفع بقوات أخرى نحو حضرموت الأمر الذي آثار مخاوف البريطانيين ، وقيل وقتها أن الإمام يحيى دفع بجيشه نحو الجنوب مستخدماً نفس تكتيك الإنجليز فقد ضربهم في ناحية هي قريبة منه ليخرجهم من بلاده لا يصل سيفه إليها وكتب النصر للجيش اليمني وانتشر الخبر وسط هتافات إلى

> Mustafa Hosam:
عدن ووصلت أصداء ذلك إلى لندن التي استبدلت ضباطها بعدن أرسلت الهدايا للإمام ومع استمرار الهجمات اليمنية وسط الخشية البريطانية من اتساع دائرة التأييد الشعبي في المحميات للإمام لجأت سلطات الاحتلال إلى سلاح الجو، وقد استمرت الحرب بين الجانبين عدة أسابيع ولم يكن نجاح بريطانيا كبيراً من الناحية العملية فيما حققت قوات الإمام هزيمة ساحقة ضد قوات لحج، وفي 1927م بعد أن تفاهمت مع إيطاليا على عدم تقديم سلاح نوعي للإمام يحيى لاسيما مضادات الطيران أعدت بريطانيا لشن حملة عسكرية جوية وتم توجيه إنذار للإمام بسحب القوات من مناطق المحميات ولهذا كان الثأر البريطاني بالغارات ، وفي البداية كان هناك خوف من تلك الغارات إلا أن الجنود وأبناء القبائل ابتكروا وسائل تقيهم من الضربات الجوية كالاختباء في شقوق الصخور.
١-تعرضت مناطق حدودية والضالع لقصف عنيف خلف عشرات الشهداء والجرحى ولم يكن حينها اليمنيون قد رأوا الطائرات من قبل فطلب الإمام هدنة للحد من الذعر الذي أصاب الجنود والسكان وعن صمود الشعب اليمني أمام الهجمة البريطانية الشرسة يقول أحد من عاصروا وشهدوا حرب 1928م وهو دبلوماسي روسي: أن الشعب اليمني الحقيقي لم يهتز حتى عندما بدأت الغارات وسقط عشرات البشر قتلى في المناطق والقرى تمزقهم شظايا الطائرات وعن المقاتل اليمني يتحدث بالقول: الاستعداد الدائم للموت والقدرة على إصابة الهدف بدقة من مسافة بعيدة فالقبيلي يتقن استخدام البندقية منذ الطفولة وعنده مقدرة على الاكتفاء بحفنة من القمح ورغيف من الذرة للغذاء كل هذا إلى جانب المستوى الرفيع من التنظيم الحربي والطبيعة الجبلية للمنطقة تجعل اليمني بالغ الصلابه في القتال الدفاعي دعمت بريطانيا تمرد القبائل على الإمام كحاشد والزرانيق مع توتر آخر في عسير ولهذا كان الكفاح على ثلاث جبهات وهو ما أضعف قدرة التحشيد وقد انتهت الهدنة ووسعت بريطانيا دائرة مناطق القصف لتشمل تعز وأب وذمار واستمر القصف المكثف لـ 20 يوماً وأدى إلى أضرار بالغة بالسكان حينها كان البريطانيون قد بعثوا بمندوب لهم إلى صنعاء إلا أن ذلك المندوب لم يكن مرغوباً به أو هكذا تحدث راغب بك أحد معاوني الإمام للروس الذين كانوا في صنعاء حينها حيث قال : إن البريطانيين طلبوا إخلاء المناطق المتنازع عليها وشنوا غارات 1928م بهدف الضغط المعنوي الشديد لكن اليمنيين لم يخرجوا وإنما نصحو المبعوث الإنجليزي جاكوب بسرعة الرحيل من صنعاء مطروداً فبدأ الأسد الإنجليزي يغضب بشدة فأرسل لليمنيين شرطاً لإخلاء تلك المناطق قبل أي مباحثات قادمة وانتهت مدة الإنذار القانوني وقتها كان الإمام يسافر إلى المصيف إلى منطقة وادي ظهر ألقت الطائرات البريطانية مناشير تعهدت بها بعدم قصف المناطق التي يرفض أهاليها من الشافعية تأييد الزيدية وأن الزيدية وحدهم المسئولون عن القصف الذي لا غرض له سوى الدفاع عن القبائل الجنوبية الخاضعة للحماية البريطانية وفي يوليو 1928م جرى الانسحاب اليمني من المحميات منها الضالع ولم تقدم إيطاليا الدعم للإمام.
٢-في يوليو 1928م انيطت مهمة الدفاع عن عدن لوزارة الطيران الأمر الذي فرض على اليمنيين ضرورة تعزيز القوة العسكرية ولهذا يقول ج أنكارين : قد تطلب هذا الصراع من الإمام وأعوانه ليس الشجاعة الشخصية فقط، بل المهارات القتالية والتنظيمية وهاهم الناس الذين لم يروا البحر قط والذين استشفوا كل ثقافتهم من القرآن والسنة بدأوا على عجل يسلحون أنفسهم وباستخدام المخلفات المادية والبشرية للإرث التركي وأكملوا تشكيل الجيش النظامي الذي بدأوه في زمن الحرب وشرعوا في بناء الصناعة وشق الطرقات وامتلاك الطائرات وحينها لم تكن المواجهة لصالح البريطانيين بنسبة 100% بل كان هناك خسائر في صفوفهم.

حرب على جبهتين:
في العام 1929م استؤنفت الاتصالات بين صنعاء والبريطانيين الذين اعادوا طرح مسودة اتفاقية للتوقيع عليها من قبل الجانبين وأرسلت المسودة مع أحد ممثلي الشركات البريطانية وسمي ذلك بـ " مشروع كراوفورد" إلا أن المشروع فشل بسبب إصرار الإمام على أن اليمن يشمل المحميات والجزر الخاضعة للاحتلال البريطاني،وفي 1931م رأى المقيم رايلي الذي عين مجدداً في عدن أن تواجد القوات الجوية من خلال الطيران في عدن هو الضمان الوحيد للنفوذ البريطاني وان توقيع اية اتفاقية مع الإمام قد يعمل على تقييد بريطانيا من استخدام القوة ورغم ذلك أرسلت بريطانيا ما سمي بوثيقة النصيحة تضمنت شروط عقد اتفاقية منها الانسحاب من الأراضي المحتلة في مايو 1932م لكن الإمام أغلق التجارة وفي 1933م شن اليمنيون أخطر هجوم على البريطانيين جنوباً عبر منطقة الصبيحة وصولاً إلى الساحل الجنوبي فلم يأت العام 1934م إلا واليمن بين فكي كماشة الإنجليز من الجنوب وأبن سعود من الشمال في وقت اعتبر فيه البريطانيون نظام ابن سعود هو أفضل ما يخدم مصالحهم وكان لابد من تجاوز هذا الوضع الذي يشكل خطورة على مركز الدولة اليمنية المستقلة وقتها في ظل إدراك صنعاء أن التحالف مع

إيطاليا لم يؤد إلى النتائج المرجوة وقد أدى التوتر مع السعودية والخشية من الأطماع الإيطالية إلى التفاوض مع البريطانيين ناهيك عن المؤامرات الداخلية التي يغذيها الانجليز الذين استغلوا خلافات اليمن مع السعودية للخضوع لكافة الشروط المطروحة من قبلهم غير أن الإمام الذي كان يتعرض للضغط السعودي لم يفرط بالأرض اليمنية وقرر تأجيل البت في الحدود والمحميات إلى ما بعد أربعين سنة وكان أحد المسئولين البريطانيين قد أكد أن الأئمة "كانوا ينظرون إلينا كمتطفلين ولم يتوقفوا عن الكفاح لمد سلطتهم إلى المحميات إلا لفترة قصيرة بعد توقيع معاهدة صنعاء" وبالتالي أعتبر البريطانيون ما حدث بأنه نصر كبير استحق على ضوئة الكولونيل برنارد صفة فارس ورغم التوصل إلى أتفاق كان هناك تشجيع بريطاني لابن سعود للتحشيد للحرب وبذلك أصبحت الاتفاقية مع البريطانيين سبباً من أسباب التوتر بين اليمن والسعودية فلم تكن اتفاقية صنعاء إلا بعد ، كان ابن سعود قد استكمل تجهيزاته لشن الحرب وتأكيداً للتآمر البريطاني حتى بعد توقيع الاتفاقية فقد أشعرت بريطانيا بن سعود بأن معاهدتها مع اليمن لا تعني إضعاف علاقاتها وروابطها بالمملكة وكان ذلك بمثابة ضوء أخضر على شن الحرب على اليمن 1934م.

المصدر: تقسيم اليمن بصمات بريطانية – للباحث عبدالله بن عامر أكتوبر/ 2020م – الطبعة الأولى.

تقييمات
(0)

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا