ملف الأسبوع

حرب المخابرات والتنصت بين أمريكا والسوفييت (الأخيرة)

حرب المخابرات والتنصت بين أمريكا والسوفييت (الأخيرة)

العميد: أنور الماوري/

من أهم أعمال التجسس والتنصت الدائرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق بأنه حافل بالأعمال الجاسوسية النادرة والطريفة، خاصة في مجال أساليب التنصت على الطرف الآخر، قد يدوم لحظاتٍ أو أياماً وربما عقوداً من الزمان..

إذا كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق هما الدولتان الأكثر نشاطاً وحيويةً على صعيد التنصت، فإن بريطانيا تحتفظ بمجلدٍ عريق في هذا المجال، وأيضاً بأقدمية في مجال الجاسوسية الالكترونية، فقد كانت أول دولة تستعين بأسلوب التنصت عبر الأسلاك، لكن الألمان شاطروا الانجليز التنصت على الخطوط الهاتفية، ولقد استطاع الألمان أن يتجاوزوا عمليات فحص الشبكات الدورية حين لجأوا الى التنصت على خطوط الهاتف السالبة، وما إن علم البريطانيون بذلك حتى طوروا جهازاً للتشويش يحد من فهم الرسائل، لكن البريطانيين سجلوا عام 1917م حدثاً تاريخياً في التجسس، ألا وهو تسجيل تلغراف "تسيمرمان" الشهير..
منذ اليوم الأول للحرب العالمية الأولى عام 1914م أرسل البريطانيون السفينة "تلكونيا" الى بحر الشمال للقيام بمهام تجسسيه محددة، أهمها التقاط الرسائل التي تبث من ألمانيا عبر الأطلسي الى الولايات المتحدة والتشويش عليها، وبالفعل قد تسنى للسفينة تعطيل الاتصالات اللاسلكية الألمانية، مما أضطر الألمان الى استخدام جهاز الراديو للاتصال بالعالم..
وبحلول عام 1917م كانت الجيوش تراوح مكانها في حرب مواقع تستنزف الجميع دون قدرة على حسم المعركة لصالح طرفٍ ما.. وعندما تدخل الأمريكيون تغيرت بوصلة المعركة، وهنا فكر وزير خارجية ألمانيا في عقد معاهدة مع حكومة المكسيك تقوم بموجبها الأخيرة بشن هجوم على الولايات المتحدة إثر عملية إغراق السفن، ووعد الوزير الألماني حكومة المكسيك بدعم مالي وعسكري، وبإعادة كلا من ولاية نيومكسيكو وولاية أريزونا وولاية تكساس التي احتلتها الولايات المتحدة في حينه..
لكن برقية مشفرة وصلت عبر واشنطن الى السفارة الألمانية في العاصمة الأمريكية تحمل كافة المعلومات والأسرار الى المكسيك..
هذه الحادثة أظهرت مدى تحكم أجهزة التنصت في سرية وسير المعارك والتحالفات رغم بدائية الأجهزة.. أما في الحرب العالمية فكانت عملية اختراق أجهزة الاتصالات تحدث كل ساعة، وكانت تعرقل سير العمليات العسكرية لدى الطرفين..
ومن أهم الأحداث البارزة في أعمال الجاسوسية في ذلك الوقت أن الدبلوماسيين السوفييت قدموا الى سفير الولايات المتحدة في موسكو منحوتة خشبية على شكل "نسر" وذلك كعربون صداقة لما قدمته واشنطن من مساعدات لموسكو إبان الحرب العالمية الثانية، وبمناسبة العيد الوطني القومي للولايات المتحدة، فأعجب وسر السفير الأمريكي بالهدية السوفيتية ووضعها في مكان بارز في مكتبه الخاص، بدون الانتباه لما يحويه هذا النسر داخل جوفه.. لكن بعد ثلاث سنوات وأثر انزعاج الأمريكيين من مدى اطلاع المخابرات السوفيتية على جميع أسرار ومجريات الأمور داخل السفارة الأمريكية بموسكو، هنا فطن الأمريكيون للأمر وأرسلوا خبراء من المخابرات خصيصاً لإجراء كشف عام على كل شيء داخل السفارة الأمريكية بموسكو، فكانت المفاجأة المذهلة عندما اكتشف الخبراء الأمريكيون أن جوف النسر لم يكن فارغاً بل كان بداخله أداة تنصت عبارة عن قطعة معدنية نصف دائرية تضغط على مفتاح فولاذي، فكانت أدنى الأصوات تجعل المفتاح يهتز، ويتم تسليط أجهزة استقبال رادارية خاصة للتنصت..
وهكذا لم تنجح السفارة الأمريكية من الغزو الاستخباري السوفيتي طيلة 19 عاماً، وسبب طول المدة بأن السوفييت استخدموا ميكروفونات خشبية بدلاً من الميكروفونات المعدنية في عمليات التنصت مما حال دون رصد أجهزة التدقيق، فكان هذا الاكتشاف الجديد بمثابة صدمة للأمريكيين..
وكان من الصعب استغلالها عالمياً وتبرير فشل الأمريكيين في الكشف عليها، لذا انفقت الولايات المتحدة ملايين الدولارات لاحقاً في حملة تفتيش دقيقة في كافة سفاراتها في العالم، ولم تفصح بأي معلومات عن نتائجها..
وإذا كان السوفييت قد نجحوا طويلاً في رصد أعمال السفارة الأمريكية بموسكو بالتنصت الدقيق، فالمخابرات الأمريكية بدورها تتجاهل هذا الأمر، وقاموا بحفر نفق عميق في ضاحية "رادو" في برلين الغربية متوغلين مسافة نصف ميل في منطقة داخل الأراضي الألمانية الشرقية حيث قام خبراء التنصت الأمريكيين بتوصيل أسلاك هاتفية بالشبكة الرئيسية الممتدة بين برلين الشرقية ولايبزيغ وذلك بالتعاون مع المخابرات البريطانية فتمكنوا من رصد الخطوط الخاصة المتصلة بمقر القيادة العسكرية لألمانيا الشرقية، واستمر الغرب يتنصت على جميع المخابرات الشرقية السرية حتى عام 1976م حيث اكتشف النفق عن طريق الصدفة..
ولا شك أن حادثة أو فضيحة "ووترغيت" هي أسطع برهان على التنصت، فبعد أن انضم غوردون ليدي، وهوارد هنت الى فريق موظفي البيت الأبيض لم ينسيا الخدمة الطويلة التي امضياها في المخابرات الأمريكية والتي دامت 21 عاماً، فدخلا مع خمسة رجال محترفين الى مقر الحزب الديمقراطي في "ووترغيت" في واشنطن وحاولوا زرع أجهزة للتنصت في داخله، ثم اكتشفت العملية مما أدى لاحقاً الى اكتشاف أن البيت الأبيض نفسه كان مزروعاً بأجهزة التنصت، وأن الرئيس الأمريكي نيكسون كان يتعرض شخصياً لمراقبة وتسجيل مكالماته ومحادثاته، مما أطاح هذا التنصت بالرئيس نيكسون نفسه عن كرسي الرئاسة..
وأخيراً: طالما استمر عمل المخابرات بين الدول الكبرى، فإن حرب التنصت سوف تستمر وتتطور بحيث يقال أن الأجهزة الحديثة والمتطورة قادرة على التقاط موجات الصوت الصادرة من قاعة معينة، ومن مسافات بعيدة في الفضاء الخارجي، وإذا استمر التقدم العلمي والتكنولوجي فإن القادم سيكون أفظع وأدهى في مجال المخابرات والجاسوسية..!!.

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا