ملف الأسبوع

طوفان الأقصى.. أفق المقاومة الاسلامية وأبعاد المؤامرة عليها (1)

طوفان الأقصى.. أفق المقاومة الاسلامية وأبعاد المؤامرة عليها (1)

عميد ركن/ عابد محمد الثور* /

ليس من السهل على أي باحث أو مهتم بالشأن العسكري أن يقرأ الأبعاد العسكرية لعملية "طوفان الأقصى" إن لم يكن مطلعاً على ما يدور في العالم والمنطقة العربية والإقليمية من أحداث سياسية وعسكرية، حتى يتمكن من ربط الأحداث، وتحقيق أفضل النتائج القريبة للواقع.

إن ما تلقّاه جيش الكيان الصهيوني من ضربة عسكرية من المقاومة الفلسطينية حماس في ٧ أكتوبر 2023م يعدّ إنجازاً عسكرياً لا مثيل له في تاريخ الصراع العربي الصهيوني؛ فهذه العملية وتوقيتها وجغرافيتها وما حققته خلالها يعتبر تقدماً كبيراً وهاماً في مستوى قدرات المقاومة الفلسطينية وإمكانياتها رغم فارق القوة والميزان العسكري والأرض والجوار.
-لقد تمكنت المقاومة الفلسطينية من توجيه عمل عسكري لم يكن في الحسبان لدى الكيان الصهيوني أو أمريكا أو حتى الدول العربية بأكملها ودول الطوق خاصة، وذلك لأن جيش الاحتلال الصهيوني مسيطر على كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن ضمنها قطاع غزة، وفارض عليها حصاراً من كل الاتجاهات، وليس من السهل على القطاع أن يقوم بأي عمل مقاوم ضد الكيان الصهيوني بسهولة، فكل المساحة الجغرافية للقطاع تقريباً واقعة تحت الهيمنة الجوية لجيش الكيان الصهيوني، وكل وسائل الحياة تتحكم فيها حكومة الكيان.
-فحينما تحدث مثل هذه العملية على عمق الكيان، وفي أقوى نقاطه العسكرية والجغرافية، فإنما هي خارجة عن المألوف، وتقيم عسكرياً أنها عملية غير عادية، ولا تندرج تحت قائمة قواعد الاشتباك المعروفة عالمياً في الأنظمة العسكرية بكل عقائدها الغربية والشرقية.

التحصين القاتل للكيان الصهيوني
-يعتبر قطاع غزة من أشد وأكبر التحصينات التي يطوقها من كل الاتجاهات، ولا توجد مدينة في العالم مفروض عليها هذا النوع من الطوق الهندسي الحصين مثل قطاع غزة؛ فهي في الحقيقة مدينة ساحلية، ولكنها سجن كبير، مساحته 360 كيلو مترا مربعاً، داخل هذا السجن مليونا مواطنٍ فلسطيني، محكوم عليهم بعقوبة السجن الإجباري؛ لأن السياج والجدار العازل محاط من جهة الشمال والشرق والجنوب، وفي الغرب طوق بحري متمثل في قوات للجيش الصهيوني تابعة للبحرية، تراقب كل التحركات على الشاطئ والبحر، ولا يستطيعون السيطرة الكاملة على كل شؤون الشاطئ وحريته باتجاه البحر الأبيض المتوسط، ولا يسمح الدخول والخروج من غزة إلا عبر منافذ ومعابر رسمها المحتل الصهيوني، وحددها بخمسة معابر برية (معبر إيريز الشمالي، ومعبر رفح الجنوبي إلى مصر، ومعبر المنظار الشرقي وهو مخصص للبضائع، ومعبر كرم أبو سالم على الحدود مع مصر، ومعبر صوفا شمالاً)، هذه هي بدايات الدخول والخروج إلى غزة براً.
وبالتالي فقطاع غزة تحت السيطرة الصهيونية جغرافياً من كل الاتجاهات، وغلاف غزة والمستوطنات الإسرائيلية الواقعة خلف الجدار العازل تعدّ في وضع المعسكرات الصهيونية؛ فهي محمية بالجدار العازل الذي يبلغ طوله أكثر من ٦٠كم على طول الحدود على الكيان الصهيوني، وارتفاع الجدار ٧ مترات، ويمتلك قاعدة عريضة تتجاوز الثلاثة أمتار، وسماكة في الأعلى تصل إلى ٦٠ سم، وبذلك يعد هذا البناء للجدار نظاماً أمنياً غير موجود في أماكن أخرى من العالم كحدود بين دولة وأخرى، ويسبق الجدار ثلاثة حواجز من الأسلاك الشائكة على شكل سياج حديدي متين يصعب اختراقه، ومسافة واحد كيلو متر بعد الجدار كمنطقة عازلة يحرم التواجد فيها.

قوة المقاومة
وكل هذه الحواجز والسياج والجدار مزودة بوسائل مراقبة وأجهزة استشعار حساسة، وكاميرات مراقبة دقيقة، وأبراج مراقبة إلكترونية، وأسلحة رشاشة آلية الإطلاق عن بعد؛ فتجد أن المستوطنات هي أيضاً واقعة تحت السيطرة والحصار، والسياج محيط بها من كل مكان؛ خوفاً من أبناء فلسطين، أو محاولات النيل بهم، فلذلك نجد أغلب المستوطنات يصاحبها مناطق عسكرية لطمأنة المستوطنين حتى يعيشوا داخلها مع تقديم كل المغريات الحياتية والمعيشية لهم ليستمروا فيها؛ فهم -أي المستوطنون- ليسوا بأفضل من أبناء فلسطين، خاصة أبناء غزة مع فارق أن أبناء غزة يعيشون على أرضهم، وتحت مظلة دولتهم وتاريخهم وجغرافيتهم، أما المستوطنون هم يعيشون في مستوطنات هي أشبه ما تكون بالوحدات العسكرية والسجون، والأرض ليست أرضهم، ولا تربطهم بالأرض والجغرافيا أي رابط تاريخي أو ديني أو قومي؛ فهم مجرد كائنات حية تؤدي مهمة البقاء في أرض يحاولون أن يقنعوهم بأنها أرضهم، ولكنهم يعلمون أنها ليست أرضهم، وأنها مسألة وقت ويتم طردهم منها إن لم يُقتلوا فيها.
- ولذلك فحينما نقول: إن تلك المستوطنات تحت التحصين القاتل، فهم فعلاً تحت التحصين القاتل، وما حدث يوم السبت 7 أكتوبر ٢٠٢٣م هو أكبر دليل على أن تلك التحصينات كانت بمثابة سياج الموت الذي لم يستطيعوا أن يفروا منه.

فارق كبير
- إن عملية طوفان الأقصى شكلت فارقاً كبيرا في الزمن بالنسبة للكيان الصهيوني الذى ظل يُعدّ ويجهز ويدرب منذ العام ١٩٤٨م وحتى اليوم، وفشل في مواجهة كتائب القسام التي هاجمته.
وفي الوقت الذي تعتبر فيه المقاومة الفلسطينية (حماس) حديثة عهد بالقتال والحروب، ولا تمتلك ذلك الزمان الذى امتلكته إسرائيل في بناء قدراتها العسكرية، ولا حلفائها الذين كانوا لها عوناً منذ نشأتها.
- إن التقديرات الصهيونية لأي نوع من أنواع القتال والمقاومة والحرب، والذي من المحتمل أن تقوم به دولة فلسطين أو محور المقاومة الإسلامية حماس لن تصل إلى مستوى عملية "طوفان الأقصى"، ولم يكن جيش الكيان الصهيوني يوماً واضعاً في حساباته أن المقاومة الواقعة في قطاع غزة ستقوم بهذا العمل العسكري النوعي الذي سبب صدمته للعسكرية الصهيونية، ولذلك وجدنا أن جيش الكيان الصهيوني قد شُلّ تماماً أمام خيار المقاومة في عملية "طوفان الأقصى"، وفقد القدرة نهائياً على التفكير، أو حتى تحديد التهديد والخطر المحيط به؛ لقد تشتت تفكير الجيش الصهيوني، فسار بتفكيره إلى مسافات بعيدةٍ جداً، وصارت مُخيّلته في عداد اللاوعي واللاإدراك، فما أصابه يوم التقت المقاومة بجنودهم وأسلحتهم كان شيئاً من الخيال شيئاً من الجنون، كانت الصدمة قوية لجيش صهيوني أسس على قاعدة: أنهم شعب الله المختار وخاصته في الأرض، وأنهم قوم اختارهم الله في أرض فلسطين؛ لأنها أرضهم المسلوبة منهم، وأنها أرض الميعاد لهم، فمن المستحيل أن يتخلى الله عنهم في مثل هذه الظروف، ومن المستحيل أن تكون نهايتهم بهذه السهولة على أيدي رجال المقاومة في فلسطين وقطاع غزة، هكذا كانت تقديرات العدو الصهيوني؛ فكانت المفاجئة لهم غير واردة في علومهم الدينية والعسكرية، فلم تستطع عقولهم استيعاب ما حصل.

الانهيار الكبير في المنظومة الدفاعية للكيان الصهيوني
الجيش الذي لا يُقهر ها هو اليوم يذلّ ويركع تحت وطأة المقاومة وعملية "طوفان الأقصى"، والتي حملت معها إرادة الشعب الفلسطيني بأكمله، وحلم الشعوب العربية. لقد شعر جيش الكيان الصهيوني أنه فُضح أمام اليهود في العالم بأسره، أنه الجيش الذي ظهر ضعيفاً خائفاً في أول هجوم عسكري محترف قامت به المقاومة الفلسطينية، وأنه في نظر كل يهودي وكل مستوطن عاجزٌ عن حمايتهم، وتوفير أبسط سبل السلامة والأمن. إن هذه العملية عكست مستوى الخلل في جيش العدو الصهيوني الذي انهار في ساعات قليلة أمام قوة عسكرية لا تقارن بأي شكل من الأشكال أمام العدة العسكرية للجيش الصهيوني ولا حتى الجيش في غلاف غزة.

سقوط مريع
إن ذلك السقوط المروع للفرقة العسكرية 134 المسماة بـ "فرقة غزة" وإمكانياتها أصاب كلَّ مقاتليها ومنتسبيها بالرعب والشلل الكامل؛ فعجزوا تماماً عن القيام بأيّ ردة فعل حتى وإن كانت بسيطة، حتى على مستوى أولئك المناوبين في ثكناتهم ودباباتهم وعرباتهم وأبراجهم أصيبوا بالشلل وعدم القدرة على رفع السلاح أمام أبطال المقاومة، فكانوا أهدافاً لرجال المقاومة، بل إن إحدى المستوطِنات تقول: إن هناك جنوداً إسرائيليين كانت بنادقهم في أيديهم وأصابعهم على الزناد وفي أماكن مخفية ومواقع يستطيعون القتال منها، إلا أنهم تخشبوا في أماكنهم، وتسمّرت أقدامهم، بل إن منهم من بال على نفسه في بدلته العسكرية، فكانوا يتساقطون من أنفسهم قبل أن يخترق أجسادَهم رصاصُ المهاجمين ، وعلى الرغم من أن كل المستوطنين تم تدريبهم على القتال والمواجهة، واستخدام الأسلحة، والتعامل معها..! إلا أنهم أصيبوا بالرعب الشديد والخوف الذي أفقدهم النطق والكلام، حتى أن أكثرهم كان يتم سؤاله بالعبرية وبالإنجليزية عن اسمه فعجز عن الرد، وهكذا كان حال المئات منهم، خاصة أولئك العسكريين الذين وصل تدريبهم إلى مستويات أفضل الجيوش في العالم، حتى إن الكثير وصفوهم بأنهم الجيش الذي لا يُقهر، وقد أثبتت التجربة منذ حروب ١٩٤٨م، و ١٩٧٣م أن اليهود هم أجبن البشر، وأذلهم؛ قال الله تعالى-: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61]. فمهما وصل بهم الإعداد والتجهيز والخبرة والتدريب فالله -عز وجل- أصدق القائلين قد صنفهم بأنهم قتلة الأنبياء، وصارت صفة الذلة والمسكنة مرتبطة بهم مهما حاولوا إظهار عكس ذلك. ولعل عملية "طوفان الأقصى" الهجومية، شرحت الكثير والكثير لمن كانوا يعتقدون أن التطبيع مع الكيان الصهيوني سيؤمنهم ويزيد من قوتهم، فكان ما يخشونه، بل إن الكثير منهم صار يبحث عن مبررات مقنعة لسبب انهيار الجيش الصهيوني والحالة التي ظهر بها أمام العالم.

* باحث في الشؤون العسكرية والاستراتيجية

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا